في واحد من أطرف مشاهد فيلم "هتشكوك" الروائي الذي عرض قبل سنوات قليلة ويدور عن السنوات التي حقق فيها ألفريد هتشكوك فيلمه الأشهر "بسايكو" وأدى فيه دوره أنطوني بيركنز, نرى هتشكوك قلقًا عند مدخل الصالة التي تقدم العرض الأول للفيلم. فهو لا يعرف بعد كيف ستكون ردة فعل الجمهور, علماً بأن قلقه هذه المرة مزدوج؛ من ناحية انطلاقًا من تساؤله عما إذا كان النقد سيحطم الفيلم أم يرتفع به إلى الأعالي. ومن ناحية ثانية انطلاقًا من تساؤله عما إذا كان الجمهور سيحب الفيلم، وبالتالي سيتدافع آخرون لمشاهدته. فهذه المرة أنتج فيلمه بنفسه ووضع فيه جنى العمر ورهن من أجله منزله.
وسط ذلك القلق تحل داخل الصالة تلك اللحظة المفصلية حين يدخل القاتل إلى الحمام ليقتل البطلة في ذلك المشهد، الذي لن ينساه أحد بعد ذلك أبدًا. ضربات سكين قاتلة تتوزع على أكثر من مئتي لقطة قصيرة كان هتشكوك وضع فيها كل مخيّلته ومهارته السينمائيتين. ظل هتشكوك في الخارج لا يجرؤ على الدخول. وكان الصمت المنبعث من داخل الصالة مرعبًا ومدهشًا. مرت الثواني ثقيلة متعبة ومُخرِجنا قلق مرتعب. فجأة، انتقل صوت الرعب من داخل الصالة إلى حيث يقف هتشكوك. وراح صراخ الجمهور يفسر ما الذي يراه على الشاشة بتقطع ولهاث. فَهِم هتشكوك أن رسالة فيلمه وصلت. وأدرك أن لعبته انطلت على الجمهور. ومن فوره راح يتقافز حيث هو واقف، مشيراً بيديه إشارات قائد أوركسترا لا تتبع صيحات المتفرجين بل تستبقها.
راح هتشكوك يحدد بأجزاء من الثانية وبتموجات يديه ردود الفعل المرتعبة لدى مئات الجالسين في الداخل. وأدرك أن فيلمه قد نجح. وفي اعتقادنا أن تلك اللحظة بالذات كانت هي التي شهدت نظرية هتشكوك القائلة: "أنا أدير الجمهور بأكثر مما أدير الممثلين".
بعد سنوات من تلك اللحظة سيشرح هتشكوك تلك النظرية، "إنها إدارة التشويق والتحكم بتلقي الجمهور له. إدارة تعتمد تقنية هدفها استثارة ذهن المتفرج. فلدى المتفرج وضعية خاصة في العادة تحتم قيادته ذهنيًا، لكي يتعلم كيف ينزلق بنفسه في مناخ الرعب الذي أرسمه له. التشويق ليس تمرينًا ذهنيًا بل عملية حسية. هناك كثرٌ في مهنتنا يكتفون بتصوير شخصيات تتحدث ولا شيء غير هذا. أما الصيغ التي أطرحها أنا، فمختلفة؛ عندي هناك مثلا شخصية تحمل لفافة داخلها متفجر. هو يجهل هذا، لكن الجمهور يعرف ذلك. من جهة ثانية يجب أن يكون المخرج الشخص الوحيد الذي يعرف متى ستنفجر القنبلة. ثم حين أحدد أنا أنها سوف تنفجر خلال الدقائق الخمس التالية يجب أن يتوقع الجميع انفجارها في تلك اللحظة بالذات. ولكني في الهنيهات الأخيرة أفككها فلا تنفجر وآنئذ يكون وقع المفاجأة الجديدة على الجمهور أكبر".
الحقيقة أن هذا "المبدأ" الإخراجي الذي فسّره هتشكوك بهذه البساطة في مرحلة متأخرة من حياته، كان جمهوره يكتفي بأن يعيشه. أما هو فكان أشد ما يطربه التلاعب بحياة الخوف التي يخلقها لدى الجمهور في نحو خمسين فيلمًا حققها بين حقبته الإنجليزية وتلك الأميركية طوال ما يزيد على نصف قرن من الزمن، كان فيها سيدًا كبيرًا من سادة الفن السينمائي، حتى وإن لم ينل أي واحد من أفلامه جائزة الأوسكار التي سينالها هو على أي حال عن "مجمل حضوره السينمائي وإبداعه" في عام 1978 قبل عامين من رحيله عام 1980.
حين رحل عن عالمنا كان هتشكوك في الثمانين من عمره. وكان قد ولد في بداية القرن العشرين الذي سيعتبر واحداً من كبار مبدعيه، وتقريباً بالتزامن مع ولادة فن السينما الذي سيكون ميدان تحركه وإبداعه. (من مقدمة إبراهيم العريس)