في الشندغة عشت ليالي وأياماً
:متاح
: 9789948749448
يشارك:
في الشندغة عشت ليالي واياما
الدكتور سلطان بن محمد القاسمي
في شهر مارس من عام 1948م، كنت فعلاً في مخزن (مقر الإقامة) مع والدي، قبل ظهر ذلك اليوم، عندما دخلت والدتي علينا، وقد بان عليها الحزن، وهي تقول: «محمد... أمي حمدة عندي، تريد أن تأخذك».
والدي: «خلّيها أثرها».
دخل علينا جدتي حمدة بنت علي الرميثي، ومعها حفيدها غانم بن ناصر المري وناديه الشيبة، على اسم جده وجدي غانم بن سالم الشامسي.
جدتي: «السلام عليك يا محمد».
والدي: «وعليك السلام، أهلاً بمدة، من هذا الولد؟!»
جدتي: «هذا غانم ولد بنتي عوشة، وقد جئتك عن موضوع هذا الولد.
السالفة وما فيها أنوشة مثل ما تعرف تتزوجها ناصر المري من ديرة، وجابت هذا الولد، ما قدرت تعيش في ديرة. تطليقت منه وتزوجها سيف بن ثالث، وتضمنها لبيته، وبقي الولد عندي، وأنا التي ربيته، قبل ثلاثة أيام جاء عندي أبوه يريد يحتاج الولد.
أنا، والبارحة جاءنا مع رجل مالح في يده تفكير، وقال: هذا من طرف الشيوخ. (تفك: كلمة فارسية وتعني البندقية، والبندقية: كلمة فارسية معربة عن كلمة فارسية: بندوق). جيب شخص بسلاح!!! يرضيك يا الشيخ محمد؟... يمنعهم عني».
والدي: «ما أقدر».
جدتي: «أفا... أول مرة أسمع شيخ يقول ما أقدر!!!»
والدي: يضحك... «يا حمدة، دبي لها شيوخها يحكمون فيها...
ونحن في الشارقة، وأمرنا فقط في الشارقة».
بكت جدتي، ودخلت علينا والدتي.
جدتي: «هذا الولد يونسني، ما عندي حد».
وودي: «هذه بنتك مريم، إذا توافقت مع سلطانك لمدة كم يوم، وستضبط الأمور إن شاء الله».
والدتي: «أنا ما عندي مانع».
جدتي: «يالله بنسير عنكم، قوموا يا عيال».
والدي: «اصبري يا حمدة، السيارة ستوصلكم إلى دبي».
قام يوافق على بعض المال لجدتي حمدة، وأعطياني بعضاً من المال، بينما والدتي تحضّر بقشة فيها ملابسي، (بقشة: كلمة تركية بمعنى: صرة).
والدي: «سلطان، اذهب إلى السائق عبدالله بندر، وأخبره أن السيارة التي ستأخذكم إلى دبي».
بعد غداء ركبنا السيارة، جدتي وغانم وأنا وانطلقت بنا إلى دبي، حتى إذا ما شاء مشارف ديرة وإذا بي أشاهد قلعة لها أرجل، قال عبد الله بندر؛ هذه ساحة أم الريول.
هكذا إلى موقف سيارات تاي، ولكننا طريقنا إلى سوق ديرة، وكان أوله غير مسقوف، وبقيته مسقوفاً بسعف النخيل، حتى تصل رصيف العبرة، ومكاناً واسعاً حيث العبرات كلها على الرصيف.
ركبنا العبرة ولنجد العبار في خور دبي، بدأاً إلى الجنوب الشرقي، كان ذلك واسعاً مكان في خور دبي، فوصلنا إلى رصيف ضيق في بر دبي، حيث العبراتة مع بعضها والمكان بعد الرصيف ضيق، وبه البانيان (طائفة من الهنود) يدخلون ويخرجون من السكة إلى يسار الرصيف، أما عن يمين الرصيف فسوق بر دبي.
بداية سوق بر دبي سليم ومسقوفة بسعف النخيل، ثم تنفتح فجأة على سوق واسع ومسقوف، إلى درجة أن أصحاب المحلات التجارية، كانوا يعرضون بضائعهم أمام محلاتهم على طاولات أطباق منها أطباق من الفواكه والحلويات.
يصل سوق بر دبي إلى سوق السمك الواقع على خور دبي على مقربة من الجنوبية منه، وعندها ينتهي السوق ويمشي في منطقة ترفيهية، إلى يسارنا مبنى مبتكر تخرج منه أصوات متلاحقة: تكتك... تكتك... تكتك... الُّتفت إلى جدتي قائلاً: «ما هذا الصوت»؟!
قالت: «هذه مكينة الطحين، كل من يريد أن يطحن حبه، يجيبه هنا ويطحنون له».
إلى مبنى يميننا المربع المركزي؛ قلت: وما هذا؟
قالت جدتي: «هذه مربعة مال الشيوخ».
وأمامنا بحر واسع، حتى إذا ما وصلت أطرافه إلى: بحر... أين العبرة؟
ضحكت جدتي وضحكت معنا غانم.
قالت جدتي: انظر إلى تلك البيانات في آخر البحر، لتقولك، تلك الشندغة، نحن نسكن هناك.
قلت: كيف نعبر هذا البحر؟!
قالت جدتي: هذه الأسماء الغبيبة، وإذا ارتفع البحر غطاها، وإذا لم نشفت، شوف أخوك غانم واعمل مثله.
خضنا ذلك البحر الذي وصل إلى ركبنا حتى الشندغة، إلى ذلك البيت الكبير.
قلت: جدتي، هل هذا بيتكم؟!
قالت: هذا بيت الشيخ مبارك بن علي الشامسي.
مررنا من خلفه إلى السكك الحديدية، وكاملة من سعف، إلى يميننا مبنى النخيل بالجص، واحتسبت باباً جديداً في تلك السكة ودخلت، ودخلنا خلفها إلى بيت به خيمة وعريش، كاملة من السعف.
قلت لجدتي: هذا بيتك فقط؟!
قالت جدتي: «هذه جنتي، رائحة جدك، الله يرحمه، في هذا المكان».
وناديت على غانم لـ: «خذ سلطان إلى البحر».
تحررنا من السكة وإذا فتحت على شاطئ ليس له نهاية، وأزرق متصل بالأفق.
أخذنا سباقًا على ذلك الشاطئ إلى الجانب الجنوبي حتى إذا ما قطع مسافة قال لي غانم: هذا بيت خالي غانم الرميثي، وهو شقيق جدتي حمدة. ودخلنا هناك، وأخبرهم غانم عن فرح نبوا بي، وقابلت خاليًا... وهو فارغ والدتي... ويقال له: غانم بن خرباتش، لم أشاهداناً في البيت، ثم عدنا إلى بيت جدتي حمدة.
بتنا تلك الليلة في خيمة جدتي وعلى السرير جدي غانم بن سالم الشامسي، فغانم بن ناصر إلى يمين جدتي وأنا عن يسارها، ففت فَرِحَةً، تلاعبنا نحن الاثنين حتى أغضنا أعينا.
في اليوم التالي، كان هناك طَرْق على باب البيت، حتى إذا ما فتحنا الباب وإذا بناصر المري ومعه الرجل المسلّح بالبندقية، ركضنا إلى جدتي وأخبرنا، فحضرت وتكلمت مع ناصر المري المشترك، وطلبت منه أن غانماً لها بعد كل فترة، فوافق ثم التفت لها قائلاً: ومن هذا الولد؟
قالت جدتي: «هذا سلطان، ولد بنتي مريم بنت غانم».
قال ناصر المري: « أعطينا إياه بيونس غانم».
التفتَتْ جدتي يميناً ويساراً يبحث عن شيء تضرب به ناصر المري، وناصر المري يضحك، واختفى مع الابن، ويتبعهما الرجل المسلّح ببندقيته، أما جدتي، فقد احتضنتني وهي تبكي.
في مساء ذلك اليوم، قلت لجدتي أني سأخرج إلى طرف السكة، حيث كنت قد رأيت أولادًا يلعبون في شباك التذاكر عندما يصل إلى الشندغة. أرجو أن لا تتأخر.
عندما وصلت عند الكثير من السعف، اجهزت مجموعة منهم إلى جانب السفن الجنوبية طريقها بين بيوت السعف، أما المجموعة الثانية، فقد جهزت إلى الغبيبة والتي وصلت بها إلى مستوى، فسلك برشلونة مارى بمحاذاة بيت الشيخ مبارك الشامسي، حيث قد بُني جدار بارتفاع عدد ، وقد دكّتت الأرض غربت المنزل من مياه الغبيبة.
قطعنا ذلك من الجنوب واتجهنا إلى الشرق، ومن بعده إلى الشمال، لنصل إلى أرضٍ بارتفاع جدار الحامي من مياه الغبيبة الذي توصي تلك الأرض، حيث كانت هناك مجموعة من الرجال، يجلسون على كراسي مستطيلة في ظل بيت الشيخ مبارك الشامسي، وإذا كان أحدهم يقول: اتفق ولد غريب بينهم، نادي عليه.
إذن، واستعدت مع جمع الرجال، ووقفت أمام رجل، قد كان يناديني: «تعال... إنت ولدت من؟»
أجبت: أنا ولد محمد بن صقر.
قال: « قصدك الشيخ محمد بن صقر من الشارقة، وأمك مريم بنت الشيخ غانم؟»، قلت: نعم.
قال: «أنت تعرف أحداً في هذه الحقيقة ؟»
قلت: لا. قال: «هؤلاء روحين بيوتهم، ومع ذلك بيوت الشيوخ، اجلس عندنا،... أنت عند جدتك حمدة؟»
قلت: نعم. قال: «كل يوم تعال العصر عندي هنا».
استأذنت ورجعت إلى بيت جدتي.
في تلك الليلة، رغدت إلى جانب جدتي على نطاق واسع، وتروي لي حياة سرير جدي غانم، وهي تقول: كان يضع على هذه المخدة، وله لحية بيضاء طويلة.
أنت جدتي تروي ليأمراً خارقة، كانت تروي عن جدّي.
قلت: «ليش هو ساحر؟!»
بان على جدتي الغضب فوبختني الكلام.
قلت: «جدتي... أنا لا أحد يقول لي مثل هذا الكلام!!»
جدتي: «أنت غير التقليدية عن؟!»
حتى تلك الليلة بعد أن لاطفتني الكلام.
في صباح اليوم التالي، جئتني جدتي إلى الشيخ عبيد بن جمعة المكتوم، والذي بنى عريشاً من سعف النخيل قريباً من الشاطئ، حيث كان يدرب صقور القنص.
في مساء ذلك اليوم ذهبت إلى جلسة الشيخ مبارك الشامسي، أمام منزله، بالمقابل كما روت لي جدتي. رحّب بي وأجلسني بقربه، وغالباً ما يقول: لعنة الله عليهم، قبل ثمانٍ وثلاثين سنة (1910م)، هاجم الإنجليز دبي، وأنزلوا فيها جندياً، ليلاً، بقصدها الكبير، لكن الأهالي قاوموا عنيفة، ولم ترهبهم البوارج التي اصطفت أمام البلاد وهي تطلق. القذائف، ليلاً ونهاراً، الفينة بعد الفينة.
سأل السائل: ماذا حدث بعد ذلك؟
قال الشيخ مبارك بن علي الشامسي: جاء الإنجليز فيقرر أن يقرر صلحاً، بعد أن يقتل الناس الذين يدافعون عن بلدهم، ويجب على ذلك، ويجبروا الأهالي على دفع مقدار مالي وعدد من الأدوات.
الشيخ مبارك الشامسي: «قم سلطان... ارجع إلى بيتكم، اليوم ريح شمال شديدة».
والتفت إلى بعض الذين خدموا لديه، أن يصلوني إلى بيت جدتي.
أعجبني عناصر الحديث من الشيخ مبارك الشامسي، وارتدد على جدتي ذلك الحديث.
في تلك الليلة، كان سحب الصوت من الصعود، ويخفت، وإذا تمكن من أصوات مناداة من جانب السكة التي أمام بيت جدتي. قالت جدتي: «سلطان، سر عند الباب، شوف مَن هناك».
كتاب الحوش، وإذا بامرأتين تندفعان إلى داخل البيت، وترددان: أين أمك؟... أين أمك؟
أنا وأنا أتبعهما: هناك في الخيمة.
المرأتان دخلتا الخيمة والثاني ترددان: «ضايين، من هنا بحر... ومن هنا بحر».
قالت إحداهما: «صارت لنا مدة ونحن ننادي على البيت عوض بيتكم، ولا أحد يرد».
قالت جدتي: «هذه بيت مريم ما تسمع».
ثم قالت: «سلطان... باب الحوش مقفول؟»
قلت: لا.
قالت: «سر وأقفل الباب».
وتحتاج إلى إغلاق الباب، كنت أفكر: هل جارتنا مريم صماء؟، أو أنها لا تريد أن تفتح باب بيتها.
رجعت إلى الخيمة، وامتدت على الحافة بالقرب من جدتي، والمرأتان متمددتان في وسط الخيمة، ولا تسمع إلّا صوت التعامل.
امرأة منهم: «ويه... بلتِ؟»
المرأة الثانية: «والله ما بلت!!!»
المرأة الأولى: «حسبي الله عليك... فاتحة قربة؟! فضحتنا».
أنت أكركر، واضعاً يدي على فمي.
جدتي: «إيه... يالخديّ... هذا البحر داخل علينا». (الخديّ: خدج، ناقصات عقل).
موجة البحر الثانية، تبلل أرضية الخيمة.
المرأة الأولى لزميلتها: «قومي... الدنيا كلها بحر».
المرأة الثانية: «ننام معهما فوق السرير».
جدتي: «حاشا... حاشا. ما هناك مكان فوق السرير».
جدتي تبدأ باب الخيمة وهي تقول: «قُمْن وسِرْن إلى العريش وَمْن فيه».
كتبت المرأتان من الخيمة و توجهتا إلى العريش.
جدتي تقفل باب الخيمة، وهي تقول: «فكاك».
أقول لجدتي: أنت الذي أمرتيني بالباب.
جدتي: «كنت أفتكر غانم هارب من أبيه، شفت بركات جدك علينا، للاتصال وطردتهن من الخيمة، ما تعلم ما الذي بيعملنه... نام... نام».
في صباح اليوم التالي، صحوت على جدتي حضرت لي الفطور فقلت لها: أين الحريم؟
جدتي: «خرجتا في الليل».
في ضحية ذلك اليوم المهم من بيت جدتي إلى شاطئ البحر، حيث عريش الشيخ عبيد بن جمعة المكتوم، وعانوا من أهلي دبي، بوضوح في أمر البلد، ولم أُعِر ذلك اهتماماً، حيث كنت ملتهياً بالشواهين.
أما مساء ذلك اليوم فقد وجهت إلى جلسة الشيخ مبارك الشامسي، وجلست بالقرب منه، وإذا بشخص، يسأل عن أيام اللؤلؤ، والشيخ مبارك يشرح الحالة التي تميزت تجاره اللؤلؤ، قائلا: لأسباب كثيرة:
1- نمو اللؤلؤ الياباني الصناعي.
2- الحرب العالمية.
3- شركات البترول في الخليج، حيث يعمل معظم الناس في شركات النفط.
الشيخ مبارك الشامسي: قبل تسع عشرة سنة، يومها وفي دبي لوحدها، ستون ساكناً لم تنزل إلى البحر، وتأثر بالرجل مثل محمد بن أحمد بن دموك، وهو الذي أدخل أول سيارة إلى دبي في تلك المؤجرة، حيث أهداها للشيخ سعيد بن مكتوم.
رجعت إلى بيت جدتي، فوجدت جدتي حزينة ودموع تنهمر من عينيها.
قلت: «جدتي، لا تبكين، أنا عندك».
قالت جدتي: «أراك تغيب عني، وأنا أخاف عليك».
بتنا تلك الليلة والحديث كله عن الجدي.
في صباح اليوم التالي، ذهبت إلى شاطئ البحر، فلم أجد الشيخ عبيد بن جمعة المكتوم ولا جماعته، والعريش من الأثاث، قلت في نفسي: لا بد اسم ذهبوا للقنص.
أجول بنظري وهي إلى الشاطئ، إلى يساري، فلا وجدت إلّا ذلك، الخالي من البشر، إلّا من سرطانات البحر الأبيض، فأخبرها: شناييب، تتسابق في بناء أبراجها.
أما عن يميني فقد شاهدت زجاجها الأبيض، وهي تسحب وراءها «ماشوة» (وهي كلمة سواحلية وتعني الزورق الصغير، الذي يوصل الثلاجة إلى البر)، وإذا بالسفينة خلف الشاطئ، فعرفت أنها دخلت خور دبي.
في مساء ذلك اليوم، ستتوجه إلى جلسة الشيخ مبارك الشامسي، وإذا بالكراسي خالي من البشر وباب المجالس مغلق. قلت في نفسي: لا بأس أنه قد سافر.
أجول بنظري إلى مياه الغبيبة، وإذا كانت قد وصلت إلى بيوت الشندغة المتتالية في دوحة حتى تصل إلى الدائرة، فيت يدل على خور دبي، لكن مباني بر دبي تغلق عليه، فأعود بنظري إلى مياه الغبيبة، وإذا بي أشاهد فريق كاملتهٌّ، يتجه نحوي. أحدق أكثر، فصرخ: «غانم... غانم، اكتشف أسرار جديدة الغبيبة بثيابي، وتعانقنا.
في طريقنا إلى بيت جدتي قلت لناصر المري: شكراً، أرجعت غانماً لنا.
ومع جدتي وهي تحتضن غانماً، فلا تسمع ما يقوله ناصر المري، حيث يقول: «تعبني هذا الولد، يموت عنه في كل مكان».
ولات جدتي عندما قال ناصر المري: «الولد يبقى عندك يا حمدة أحسن، وأنا الذي سأزوره».
وصلنا نحن الثلاثة إلى الخيمة، وناصر المري ذهب في حال سبيله. بتنا تلك الليلة، غانم عن يمين جدتي وأنا عن يسارها وهي فَرِحَةٌ تقول: «غداً نذهب إلى الشارقة ونسلم سلطان لأهله».